28/08/2023 - 02:10

تييري رونارد... لا مستقبلٌ هنا حتّى إشعارٍ آخر

تييري رونارد... لا مستقبلٌ هنا حتّى إشعارٍ آخر

عدسة شاهين سيزر دينتشير

 

وُلِد الشاعر الفرنسيّ تييري رونارد Thierry Renard في مدينة ليون في عام 1963، من أمّ إيطاليّة وأب عامل. بدأ تييري رونارد حياته الأدبيّة في المسرح، قبل أن يؤسّس المجلّة الشعريّة «Aube» (أوب)، ثمّ أنشأ دار نشر باسم « Paroles d'aube» (بارول دوب) حتّى عام 1998. يعمل الآن مديرًا لدار النشر «La Rumor Libre» (لا ريمور ليبرغ)، المختصّة بإصدارات شعريّة، ويعمل أيضًا مديرًا فنّيًّا لـلمركز الثقافيّ «Espace Pandora» (إسباس بن دورا)، في مدينة فينيسيو المحاذية لِليون.

الشاعر تييري رونارد ناشط ثقافيّ معروف لتنوّع نشاطاته وتعدّدها، تلك الّتي تدور في معظمها حول الشعر والكتابة ومعارض الكتب، وقد كُرِّم في عام 2013 بـ «وسام الفنون والآداب» (Officier des Arts et des Lettres) الّذي تمنحه وزارة الثقافة الفرنسيّة سنويًّا للناشطين في الحقل الثقافيّ داخل فرنسا وخارجها، وكان قد أصدر مجموعته الشعريّة الأولى «الكتابة الحمراء -Les Écritures rouges » في عام 1989، ثمّ أصدر منذ ذلك الوقت حتّى الآن أكثر من عشرين عملًا، كان معظمها في الشعر، بالإضافة إلى أعمال فنّيّة مشتركة مع مصوّرين وكتّاب فرنسيّين. وصدرت أعماله الشعريّة الكاملة في جزأين في عام 2018.

بدأت معرفتي الشخصيّة بتييري عام 2007، حين كنت مقيمًا في مدينة ليون خلال إعدادي رسالة الدكتوراة، وكنت قد تعرّفت عليه حين دعاني لتقديم أمسية شعريّة موسيقيّة بالاشتراك مع الموسيقيّ الفلسطينيّ الراحل عادل سلامة، وبمشاركة ثلاث ممثّلات مسرحيّات قرأن القصائد بالفرنسيّة: ليلى أنيس، وفانلييه دانجي، وتيريز دافيين. أجرى تييري تنظيمًا دقيقًا وباهرًا لأمسيتنا هذه، الّتي تجمع أشكالًا فنّيّة عدّة: الشعر والموسيقى والمسرح، وهذا بفضل طاقم عمل مهنيّ متفرّغ لهذا النوع من النشاطات.

 

الشاعر الفرنسيّ تييري رونارد

 

حين أخبرته حديثًا أنّني في صدد إعداد ترجمة لقصائده، سألته إن كان تأثّر بكاتب عربيّ خلال مسيرته الأدبيّة، فقال: "قراءاتي في الأدب العربيّ المعاصر، هي من بين أكثر القراءات إفادة، وأكثرها سخاء؛ فلديّ كتّاب عديدون في مكتبة البانتيون الخاصّة بي في البيت، ثمّة ثلاثة منهم يتبادرون إلى الذهن على الفور: كاتب ياسين، ومحمود درويش، وعبد اللطيف اللعبي. هؤلاء الثلاثة ساهموا في صقلي أدبيًّا؛ بالتزامهم في الحياة من جهة، وانفتاحهم على العالم من جهة أخرى. ومن بين الشباب، هناك صديقي الشاعر المغربيّ محمّد العمراوي، الّذي أصدرتُ له مجموعات شعريّة عديدة، وأشاركه بانتظام في القراءات الشعريّة العامّة، في فرنسا وخارجها، إلى جانب الشاعر والموسيقيّ ديميتري بوركو. كلّ الكتّاب العرب الّذين قابلتهم لا يكتبون بالضرورة باللغة العربيّة، لكن لا تهمّ لغتهم في الكتابة؛ إنّهم مؤلّفون، ومعظمهم من الشعراء، وتعني أعمالهم الكثير بالنسبة إليّ".

يغلب على قصائد تييري الشعر السرديّ، حيث القصائد الطويلة، لكنّه سرد يتّكئ على الكثافة والمجاز حينًا، وحينًا على الصور الشعريّة. شعر لروح مندفعة على الحياة، فيه صوت الضواحي والطبقة العاملة، والقصائد ملوّنة بأوجه الحياة؛ مفاتنها ومصاعبها، وبقدريّة التحدّي، لكن تشيع في القصيدة روح إيجابيّة تؤمن بفاعليّة الأمل وبإرادة الإنسان.

مجمل هذه القصائد - ما عدا القصيدة رقم (2) - مقاطع مقتطفة من قصائد طويلة، وجرى هذا الاقتطاع بالاتّفاق مع الشاعر نفسه. والقصيدة رقم (1) مهداة من تييري إلى شاعر فرنسيّ آخر هو هيرفي ميكوليه.

 

الحياة المتناقضة

La vie contradictoire

 

(1)

لقد فتحتَ الليلَ

لقد فتحتَ قلبكَ لليل

مددتَ ذراعيكَ إلى الأفق

وأشرتَ بإصبعكَ إلى الأفق

فتحتَ عينيكَ في الليل

لقد فتحتَ عينيكَ على العالم

كنتَ في الليل طوال الليل

ليلةٌ كاملةٌ وليالٍ أخرى متتاليةٌ

لقد رفعتَ قبضتكَ، رفعتَ رأسكَ

في ليل الليل

في الظلام الدامس

حاولتَ المعرفة

وفهمًا أفضل

أعطيتَ نفسكَ الوقت لتتعلّم

ودخلتَ إلى الليل

أحيانًا عبر الباب وأحيانًا عبر النافذة

ثمّ عرفتَ الفجر الجديد

تركتَ الظلّ للضوء

لقد قابلتَ اليوم

اليوم العظيم الّذي يولد بعد الليل

لقد نفضتَ أغطية الوقت

ومزجتَ الليل بالنهار

خلطتَ بين الثواني

وخلطتَ بين الساعات

لقد بنيتَ أحلامكَ على الأطلال

على أنقاض الليل!

 

لقد عبرتَ الحرائق الكبيرة

للذهن والروح

الحياة الحقيقيّة تعبر من خلالنا

لم تَعُدْ في مكانٍ آخرَ

الحياة الواقعيّة خلفنا وأمامنا

الحياة الواقعيّة نادرةٌ

مغامِرةٌ في بعض الأحيان

الحياة الواقعيّة لها أسماءٌ عديدةٌ

فرحٌ عميقٌ

بحثٌ عن المعنى

عطشُ ما بعد ظهيرةٍ في الصيف  

الحياة الحقيقيّة تتدفّق مِنَ الفجر حتّى منتصف الليل

ومِنْ منتصف الليل إلى الفجر

إنّها عابرةٌ لليل والنهار.

 

ليون، خلال جولة في نزهة مع سونيا،

الأحد، 16 تشرين الأوّل (أكتوبر)، 2022.

 

(2)

لا أسعى دائمًا إلى المعرفة

لا أحاول دائمًا أن أفهم

للروح حياةٌ

طبيعيّةٌ أيضًا كشجرةٍ

أتخيّل أنّه عندما تنقضي العبوديّة

تنتهي وتُنْسى

يمكننا أن ننشئ

نظامًا عالميًّا آخرَ

وأن نفتح كومةً مِنَ النوافذ

بقيتْ سرّيّةً حتّى الآن.

أتخيّل أنّه بعد الاضطرابات

في تلك الأوقات

أنّه عقب الحريق الرهيب

بعد الاقتلاع الأخير للشعوب

سيكون هناك نهايةٌ للشجن

للبؤس الاجتماعيّ وللتداعيات

وللكراهيّة في ذروة الرفض الأكثر عمقًا

هناك ضوءٌ جديدٌ

جديدٌ طازجٌ سيغمر الأرض.

 

أعتقد أنّ الوحدة والمصالحة

هما في هذا العالم المتقدّم في السنّ

أشياءُ ما زالت ممكنةً

أستطيع أن أتخيّل رائحة الزهور

في حقول الربيع

حتّى لو أنّني خسرتُ بداخلي

منذ عدّة سنواتٍ

أيّ أثرٍ لحاسّة الشمّ.

 

أستطيع أن أتخيّل الطبيعة المتجدّدة

البحار والمحيطات والأنهار والجداول

التلال والغابات

وكذلك الجبال المرتفعة الفخورة

أتخيّل أنّها بصحّةٍ جيّدةٍ وممتلئةٍ

بالألغاز المعاد اختراعها

هذه الطبيعة الّتي تحيط بنا

بين رياح النهار والليل.

 

الحنين إلى اللغة المفقودة

يرتفع أحيانًا إلى السطح

ويموت على شفتيّ

لذلك أغمغم وأتلعثم

أرتجف فجأةً من كلّ جسدي

الآن عالمي مُغْلَق

لم يَعُدْ هناك طقسٌ

الشمس لن تستلقي مرّةً أخرى على كلماتي

 

لغتي أصبحتْ هذا المكان غير الموجود!

 

في سانت جوليان مولان موليت،

الأحد، 30 تشرين الأوّل (أكتوبر) 2022.

 

(3)

الكشك الحجريّ حيث وضعتُ

أمتعتي بشكلٍ طبيعيٍّ

الكشك الحجريّ حيث وضعتُ

قلبي العاري وحفرتُ قبري

حيث فقدتُ أثري الشخصيّ

الكشك الحجريّ في حالة تأهّبٍ

نزلتْ أشباحٌ مسلّحةٌ

في حديقتي وبقيتْ هناك بشكلٍ دائمٍ

لا مستقبلٌ في هذه الأماكن

 

لا مستقبلٌ هنا حتّى إشعارٍ آخرَ

فقط عددٌ قليلٌ مِنَ العلامات المفقودة

إشاراتٌ في السماء على رؤوسنا

ربّما طائرات ركّابٍ

لا مستقبلٌ هناك، عَرَقٌ فقط

ودموعٌ تسيل على الجبهة

وعلى الخدّين

لا مستقبلٌ قلتُ

سيتعيّن علينا انتظار آب

عيد ميلادي الستّين.

 

يهدهدني الوهم العالق بالوهم

لقد مارستُ الحبّ مع ملكاتٍ صعبات المراس

وعبرتُ مِنْ أجل الحياة

جمهوريّاتٍ مِنَ الغيوم البيضاء الطويلة

قبل أن أكون حرًّا كنتُ أصغر سنًّا

ونفاذ صبري تجلّى

دون انقطاعٍ

وكنتُ دون انقطاعٍ

متهوّرًا متقلّبًا شرسًا

ونفاذ صبري كان يجول في الشارع.

 

لقد سكنتُ هذه الأرض قبل فترةٍ طويلةٍ

مِنْ ولادتي في عالم الأحياء

كبرتُ قليلًا في كلّ مرّةٍ

واخترقتُ أسوارًا ضخمةً

وأخرى أكثر نحافةً

لقد حملتُ شجاعتي

بكلتا يديّ أحيانًا

وقاتلتُ الوحش القذر

الّذي جاء مباشرةً من غياهب الأعماق

 

لا يوجد تعريفٌ آخرُ

لا يوجد حلٌّ آخرُ

الكلمات هي غبار الريح

الكلمات هي الفرصة الأخيرة

لنا كي ننقذ البشريّة

النسيان الّذي مضى عبر باب الملل

يدفن ذكرى ما تبقّى لنا

حطامٌ من الخشب

دخانٌ ورائحة سماد.

 

يجب الحفاظ على كلّ ما تبقّى

حتّى أقدم الأغصان

حتّى الشعاب المرجانيّة والأدلّة

الاغتراب لم يعد لديه ما يضيفه

ألوانه داكنةٌ فاسدةٌ

الذلّ وصل إلى ذروته

اكتمال القمر عاد الآن

على الحقول البور والبذور السيّئة

زُرِعَتِ المناظر الطبيعيّة مرّةً أخرى.

 

لذا الانكشاف أو القفز في الفراغ

تمرّدٌ، غضبٌ، تمائمُ

لغطٌ، ضجيجٌ، فوضى

ثمّ استياءٌ وحمًّى وفضيحةٌ

هناك الكثير مِنَ المصائب للتغلّب عليها

 

لقد فقدتُ الكثير مؤخّرًا

لكنّني لم أستسلم أبدًا

إنّني اعترضتُ على ذلك بكلّ بساطةٍ

وعشتُ دون كللٍ بأذرعٍ مفتوحة.

 

(4)

في البداية كنتُ شاعري الخاصّ

ثمّ جعلتُ وجودي

كتابًا طويلًا مِنْ عدّة آلافٍ مِنَ الصفحات

عرضٌ منفردٌ طويلٌ، كئيبٌ ومضحك!

 

في البداية كنتُ صبيّ الضواحي

الّتي تسخن بالغبار في بعض الأحيان

ثمّ تحوّلتُ لمشاكسٍ كبيرٍ

على أُلْفَةٍ مع الرياح

 

لم أتوقّفْ أبدًا عن الرغبة في معرفة

ما يكمن خلف الوجه

أحيانًا يكون النهار هو الّذي يأتي

على الآخرين

بدلًا مِنَ الليل البطيء المعتم.

في بعض اللحظات تكون الحياة غير أكيدةٍ

لذلك نتظاهر بأنّنا هنا

نحتمل الأمر، ونبقى على الخطّ

نسعى عبثًا إلى الحقيقة

كنتُ كوميديًّا مهرّجًا وبهلوانًا

كنتُ سوقيًّا منذ مراهقتي

كانت هناك الكثير من الثغرات

على مساحة هذا الجِلْد

عَبَرني صوتٌ فريدٌ وأصمُّ.

لا عيب لديّ

لقد تورّطتُ بكلّ تواضعٍ

في حشودٍ مِنْ جميع أنواع الكائنات

 وعشتُ كلّ الحالات المتناقضة.

 


 

أنس العيلة

 

 

شاعر وكاتب فلسطينيّ مقيم في باريس، أصدر عدّة مجموعات شعريّة تُرجمت إلى الفرنسيّة، آخرها "عناقات متأخّرة". ينشر مقالاته في مجلّات ثقافيّة وأكاديميّة.

 

 

 

التعليقات